Thursday, 22 October 2015
little girl
كنت أبلغ من العمر أحد عشر عاماً حين حضرت لآخر مرة مجلس عزاء عاشورائي. كنت أقطن في منزل جدتي، وكان إحياء ذكرى عاشوراء من المقدسات، ليس عبر حضور مجالس العزاء فقط، بل من خلال استبدال العادات اليومية بأخرى تتناسب مع تقاليد العزاء.
أذكر جيداً حديث جارتنا، "لا يجوز الضحك في عاشوراء"، كل المظاهر غير المرتبطة بالحزن أو "التي قد تقلّل من مصاب أهل البيت محرّمة، كمضغ العلكة مثلاً".
ليلة الجمعة الماضية كانت المرة الأولى التي أقصد فيها الحسينية بعد انقطاعٍ طويل. من الصعب ألّا يلتقط المرء الحالة العاطفية والنفسية الناتجة عن اجتماع كل هؤلاء الناس بسبب قضية موحّدة. يُفصل بين النساء والرجال بحاجز أسود كتبت عليه شعارات حسينية، أما الأطفال فينقسمون بين من اختار البقاء مع والدته ومَن فضل الجلوس مع والده.
مع بدء الشيخ بتلاوة المجلس يبدأ البكاء، فالبكاء على أهل البيت مستحبّ، "يطهّر النفس ويغفر الخطايا". تختلف حدّته باختلاف القصة والراوي، وطبعاً باختلاف التجربة الفردية لكل واحدٍ من المستمعين، منهم مَن يبكي نفسه ببكائه على الحسين، ومنهم مَن يبكي أمواته، ومنهم من يبكي الحسين لأنّه يبكي الحسين. وأنا عندما بكيتُ الحسين في صغري بكيتُه بهدف الانتماء للجماعة.
أدناه ثلاثة أشخاص يحكون لنا عن علاقتهم بذكرى عاشوراء.
ارتباط الرواية بالمكان
مثلها مثل جميع الأطفال لم تكن إسراء (22 عاماً) ابنة السبعة أعوام حينها تدرك معنى عاشوراء.
كانت تكتفي بتنفيذ طلبات والدتها خلال الأيام العشرة الأولى من محرم، ترتدي الثياب السوداء، تطرق أبواب الجيران لتعلمهم بموعد مجلس العزاء في منزلهم، وتساعد في تحضير "الهريسة" التي توزّع على المحتاجين.
لكن مع الوقت، دفعت الحشرية إسراء لأن تفهم السيرة المروية في مجالس العزاء أكثر. تقول: "كنت أقوم بإحياء هذه الذكرى لأنّني تربيت عليها، لاحقاً بدأت أفهم معانيها أكثر، وقرّرت زيارة كربلاء والنجف".
تُعتبر إسراء أنّ زيارتها للعراق ساعدتها على أن تصير شخصاً مختلفاً. رؤية الأماكن التي حصلت فيها الأحداث حوّلتها من مجرد قصص إلى واقع مرتبط بأمكنة رأتها، ممّا زاد من تعلّقها بعاشوراء.
لا تعتبر إسراء نفسها ملتزمة دينياً، ولا تعتقد أنّ نمط حياتها يتوافق مع ما يفرضه الدين. هي تعيش كلّ السنة بالطريقة التي ترغب بها، باستثناء أيام عاشوراء وشهر رمضان. ترى إسراء أنّ هاتين الفترتين تقرّبانها من الله كما تساعدانها على فهم الدين، حسب تعبيرها، في طريقها للالتزام الديني الكامل الذي تطمح إليه في يوم من الأيام.
بين المسيح والحسين
لم يحتكّ ميشال (25 عاماً) بذكرى عاشوراء قبل دخوله إلى العمل وتعرّفه إلى زملاءٍ ينتمون للطائفة الشيعية. في السابق كان يصادف أحياناً مجالس عزاءٍ على التلفزيون أو راياتٍ معلّقة في الطرقات. علاقته بزملائه الجدد عرّفته على الحسين ومصابه، حسب قوله، وأثرت به إلى حدٍ صار معه يحضر مجالس العزاء.
تقدير ميشال للذكرى يأتي من إحساسه بأنّ الظلم الذي تعرّض له الحسين يشبه ذلك الذي تعرّض له المسيح.
لاحظ ميشال أنّ هذه الذكرى تتحوّل لدى البعض إلى عقيدة تجعله مستعدّاً للتضحية بنفسه من أجل الحصول على ما يعتبره حقوقاً له. لكن وفي الوقت نفسه، فهي لدى البعض الآخر، نتاج لعادات وتقاليد زرعت فيهم بسبب انتمائهم الطائفي، من دون أن يفهموا القضية وصاحبها. حسب رأيه، فإنّ التحوّل الجذري الذي يطرأ على هؤلاء خلال العشر الأوائل من شهر محرّم، يزول بمجرد انتهاء اليوم العاشر. يقول: "هو تحوّل في المظهر فقط، بلبس الأسود واللطم وغيرها من السلوكيات، من دون فهم حقيقة الحسين".
الثورات والظلم
"العودة إلى الروحانية وإدراك المرء حقوقه وواجباته"، هكذا يعرّف حسن (24 عاماً) عن مفهومه لعاشوراء. يحاول ربط الذكرى بالواقع المعاش، "نحن في لبنان لدينا مطالب محقّة عديدة، نقوم بالتعبير عنها من خلال المظاهرات في الشارع". في معركة كربلاء كان هناك قلّة قامت لتطالب بحقوقها، فكانت النتيجة تعرّضها للظلم والاضطهاد، بحسب حسن الذي يضيف: "على الرغم من أنّه لا يمكن فصل الجانب الديني عن هذه الواقعة، لكنّها حملت بالدرجة الأولى معاني سياسية واجتماعية، هي نفسها الموجودة في أي تحرّك للمطالبة بالحقوق كما يحصل اليوم".
يقول حسن مازحاً إنّ "النفس أمّارة بالسوء"، فليس هناك شخصٌ يستطيع الالتزام بقواعد الدين طوال العام، لذا فهو يقوم سنوياً بإحياء ذكرى عاشوراء، "لأرجع شرّج"، حسب تعبيره.
Subscribe to:
Posts (Atom)